قال عمر بن العزيز : ” إنما هلك من قبلنا بحبسهم الحق حتى يشترى منهم , وبسطهم الظلم حتى يفتدى منهم .”
لاتبخسوا الشعب تاريخه وعطاءاته وتضحياته .. ولاتستكثروا عليه الجهر بآلامه ونقده وطموحه ، فبعد أن رفع أمره إلى الله في سجوده وعقب صلواته وصدماته بصياغة أدعية تسال الله الفرج واليسر بعد العسر ، والرخاء بعد الشدة ، فمنسيستمع ويستجيب لمطالبه ومناشداته بعد أن بلغ معاناته مع التهميش والخصاص إلى كل من يعنيهم الأمر والذين هم على علم مسبق بأحواله المزرية ..؟ وما ذنبه إن طال أوتأخر الجواب المنظر من الذين تسببوا بقراراتهم وسياساتهم في تفقيره، بتحرير الأسعار ، وإجحاف المقايسة المشوهة ، وتجميد الأجور ، وتقليص فرص تشغيل الشبيبة نبض المجتمع ومستقبله ..؟ إلى من سيشكون ضعفهم وقلة حيلتهم وهوانهم ..؟ ،
فإذا لم يثر الفقر وأوضاع الناس التي تزداد تعقيدا انتباه من مهمتهم الإستماع لآلام الناس وترجمة طموح الشعب المجسد لإرادة الأمة ، وإذا لم تحرك البيانات والتدوينات ، ولا أيام وأسابيع بل وأشهر الإحتجاج همة من بيدهم الحل والعقد لحل المشكل من السياسات ، وتصحيح المختل من القرارات والإجراءات ، وإرساء وتقوية ما يفرج الكرب ويخفف الأزمات ويخرج المتضررين من ظلمات الفقر إلى أنوار العدالة الإقتصادية والإجتماعية والتقدم ..؟
إن الشرود الفكري لبعض المسؤولين أخرجهم من سباتهم وصومهم ليس فقط عن الطعام والشراب بل حتى عن حسن الإستماع ، وفشل في تقديم الإجابات المقنعة والموضوعية التي تحول الإلتزامات الشفهية إلى واقع ملموس يطمئن الناس وينفخ روح الأمل في الأنفس بعد أن ضاقت الصدور ، وانحبس الأفق ، وأناخت الأزمة بكلكلها على الناس ..
إن التوسلات والإجراءات الشفهية التي جاءت بعد تهديدات “دونكيشوطية ” واتهامات لامسؤولة لبعض “المسؤولين الحكوميين ” في موقف منحاز لن تعيد الدفء والحياة لأجرة وجيوب الشعب الذي توالت عليه الضربات من كل جهةوناحية بمناسبة أو بغيرها ..
إن التعريف البسيط للإضراب هو توقف جماعي مدبر عن العمل لإثارة الإنتباه ، أوالاحتجاج ، أو الدفاع عن ملف مطلبي .. تعترف به كل الدول التي تحترم نفسها وتؤمن بحقوق الإنسان ..إنه بصيغه المختلفة المعروفة والمحدثة هو منعلامات الحيوية والوعي ، ومن الوسائل الضرورية التي يلتجئ إليها المواطنون والمواطنات لحماية وضمان توازن سليملمصالحهم وتحسين أوضاعهم ، و مواجهة كل مساس بحقوقهم ومستوى عيشهم بسبب سياسات عمومية أو سياسات القطاع الخاص أفرادا وشركات .. ، ولقد نص الدستور المغربي بعد الإستقلال ومازال على أن الإضراب حق مضمون ، مما يفيد أنه لا يمكن الإلتفاف عليه بتعطيله أو إفراغه من أدواره بتقييدات من “قانون تنظيمي” لم يأت منذ عشرات السنين لوجود تباين جوهري في الرأي والمبدأ بين الشغيلة والنقابات والدولة من جهة، والباطرونا من جهة أخرى ..إن اهم قاعدة نضالية إنسانية وشرعية لخصها الحديث النبوي في : (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) .وقوله (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
أشار الدستور في الفصل 20 إلى اعتبار : “الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان. ويحمي القانون هذا الحق .” .. كما نص في الفصـل 25 على أن “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها.”ونص في الفصل 31 على جملة من الحقوق منها “…التنمية المستدامة.” ..فأين أجوبة الحكومة على هذه المقتضيات الدستورية في علاقة مع مطالبهم ونضالاتهم ؟ وأين تجسيدها الملموس في أحوال الناس ؟
وفي علاقة بالدستور فإن من حرية الفكر والرأي والتعبير تعمد إثارة الإنتباه و استنكار و انتقاد الأوضاع المتردية والسياسات المغضوب عليها ، ومنه إتخاذ مواقف وقرارات مثل خوض إضرابات ،ومسيرات ،ووقفات احتجاجية، واعتصامات ..إلخ ، ومنها تنظيم مقاطعات لمؤسسات ودول ومنظمات قارية وجهوية ، أو سلع وبضائع ومنتوجات معينة ، أو مباريات وامتحانات …إلخ
وفي نفس السياق وبخطوات ذكية محسوبة ، تم اعتماد حراك جماهيري عبر وسائل التواصل الإجتماعي الذي تحول من العالم الإفتراضي بالدعوة لتنفيد مقاطعة رمزية ، إلى الواقع بشكل قوي أثر ويؤثر في موازين القوى الذي اختل بسببتهميش وتمييع ومحاربة العمل السياسي والنقابي الجادين ، هذا الحراك قدم تفسيرات إقتصادية وتاكتيكية توضح الأسباب والمطالب ، وتمكن من توسيع التعبئة ورفع نسبة التجاوب لدرجة جعل الموضوع رسميا و مؤسساتيا ، اعلاميا وطنيا ودوليا ، دفع العديد من المسؤولين لتقديم تفسيرات منها غير المقنع ، ومنها الغريب والضعيف والمستفز ، ومنها المحذر والملوح بتهديدات لاطائل ولا مصلحة من ورائها ، ومنها الذي ارتكز على الإنعكاسات والتأثيرات الإقتصادية السلبية في حالة استمرار المقاطعات دون تقديم أجوبة شافية ومقنعة للناس والمرتبطة بضعف القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار وانتشار الفقر والتي كانت السبب في احتجاهم المسالم ..
إن سلاح المقاطعة قديم ويتم اعتماده شعبيا وأسريا ، وتتم الدعوة له كإجراء سياسي سيادي أحيانا تواجه به منظمات ودول ، خاضته عدة مجتمعات وشعوب حققت به نجاحات كبيرة سواء في مواجهة الإستعمار كما حصل في الهند بزعامةالمهاتما غاندي ، أو بمقاطعة بعض المساجد بالمغرب التي بايع أئمتها دمية الإستعمار ابن عرفة زمن نفي الملك الشرعي محمد الخامس …الخ ، ومقاطعة كل أشكال وأنواع التطبيع مع الكيان الصهيوني في إطار مساندة كفاح الشعبالفلسطيني من أجل دعم تحرير كل فلسطين ، ومنه مقاطعة الإستفتاء على الدستور أو الإنتخابات ، ومنه الذي هم الدراسة وبعض الإمتحانات وتسبب في سنة بيضاء ..
إن المقاطعات بطبيعة الحال تكون ناجحة إن كانت مؤطرة بشكل جيد ، وكان موضوعها متجاوبا مع رغبة وإرادة المساندين لها سواء دعت لها أحزاب أو نقابات أو مجتمع مدني ، وكذا بعالم الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي التي اصبحت مؤثرة في الرأي العام الشعبي والرسمي ، وتساهم في التغيير والإصلاح وتحريك المؤسسات وتفاعلها ..
إلا أن هناك مقاطعات لايتم إحصاؤها ولا الإهتمام بها والتي تنظم دون الإعلان عنها لا للعامة ولا الخاصة بسبب الغلاء من جهة والفقر من جهة أخرى حيث يمتنع الناس عن شراء العديد من المنتوجات والمواد ، و يلتجؤون إلى المستعمل منها ، تعلق الأمر بالأفرشة و الألبسة ، أو إقتناء ما فضل من الخضر والفواكه من الأسواق الأسبوعية أو الشعبية نهاية اليوم لأن الأثمنة تنخفض مخافة فساد السلع وتضرر الأرباح الهزيلة ..
إن أساليب الإحتجاج المعروفة والمؤطرة قانونا يسهل تعطيلها في علاقة بموقع وموقف وتقدير الجهة المرخصة أو المانعة والتي قد تتطور إلى صدام وضحايا وإعتقالات ومحاكمات ..، لكن طرق الإحتجاج الشعبية الإفتراضية والتي كان ولايزال مفعولها قويا ومؤثرا يصعب التحكم فيها ولا توقع بدايتها ونهايتها ولا حتى مآلاتها .. إنها السهل الممتنع الذي من تجلياته نجاح المزاج والإبداع الفكري و الإرادة الشعبية الشجاعة في مجالات مختلفة كالنكث ، والحكايات المنتقدة للأوضاع والمؤسسات والمسؤولين ، ومنها نظم زجل و”أمارك” من طرف الشيوخ والروايس في الفنون الشعبية المختلفة الأمازيغية والعربية والذي يكون غالبا تلقائيا ووليد لحظة المقابلات الشعرية الفنية التراثية ، حيث تصنع رأيا عاما يجتمع ويتعبأ على ملفات وقضايا مختلفة ، وهي أقوى أضعافا مضاعفة سياسيا وجماليا وأدبيا في نقدها وتشريحها للأوضاع ، وأحسن و أكثر صدقية من مداخلات السياسيين كانوا بالمؤسسات أو خارجها حيث يتغنى بها الرجال والنساء عى حد سواء ويضربون بها الأمثال ..
إن كل أساليب الإحتجاج والإستنكار مشروعة لأنها لاتظهر إلا بعد ظلم وقع وإحساس بالإحتقار ، أو إنتهاك لحقوق وحريات بإجراءات يحضر لها أو يتم اعتمادها ، أو بسبب غلاء الأسعار وتدهور مستوى المعيشة ..إن من قواعد التدبير الأمثل لمواجهة الفقر والبطالة والدخل المحدود الضعيف ، الإبتعاد عن كل ما يتسبب في استنزاف الميزانية اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية أو السنوية للأفراد والأسر والشركات والمؤسسات الرسمية والدولة ..مع تبني عدالة وحكامة اقتصادية واجتماعية ومجالية ، وجعل مكونات المجتمع منتجة ومتضامنة وفاعلة في التوازن الإقتصادي والاجتماعي ..مع ضرورة القطع مع التفاوت الطبقي الظالم والجشع الذي يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا ، وما يتطلبه الأمر من امتلاك لرؤية ومخططات استراتيجية واضحة وعلمية وهادفة …
ومن بعض الصفحات المشرقة في تاريخنا الإسلامي نذكر بالفلسفة والمنهج العادل والنتائح المتميزة للخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز حيث ورد في أحد المرويات المعتمدة : “عن عطاء بن أبي رباح قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز: أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه، سائلة دموعه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ألشئ حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدتأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، وذي العيال في أقطار الأرض ، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة عن خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.”
وقال عمر بن عبد العزيز : (من أراد أن يَصحبَنا فلْيَصحبْنا بِخمسٍ: يُوصل إلينا حاجة مَن لا تصل إلينا حاجته، ويدلّنا على العدل إلى مالا نَهتدي إليه، ويكون عوناً لنا على الحق، ويؤدي الأمانة إلينا وإلى الناس، ولا يغتاب عندنا أحدا.)
ومازال أصحاب المطالب ينتظرون الأجوبة بكل هدوء وصبر ..نسأل الله أن لايخيب رجاؤهم ولا يجهض تفاؤلهم